عن خوفي من برلين

كنت “مرتاحة” أعيش بين أهلي، بجانب أصحابي، لدي جامعتي وعملي وسيارتي، لدي كياني وعالمي… انتقلت قبل سنوات للعيش في بيروت ولكني عدت أخيرا الى جذوري، الى حيث أنتمي، ومنذ ذلك اليوم وأنا أسيرة “الروتين” ولكنني بقيت أشعر بأنني قادرة على التحليق في عالم أنا جزء منه الى أن أبلغ أعلى قمم أحلامي.

اتصال كان كفيلا أن يزعزع استقراري. منحة لأسبوع واحد أعيشه في برلين مع أشخاص من بلدان مختلفة في اطار تدريب على عمل صحفي. أشخاص كل ما أعرفه عنهم أنّي لا أعرف شيئا، وبلد أراه حلوا في الصور ولكنّ كل ما فيه مجهول في نظري.

“نعم”، طبعا سأوافق، أنا التي أحب المغامرة وأعشق التحدّي. جواب طرح في ذهني عشرات الاستفهامات، بل عشرات المخاوف.

أنا اليوم في برلين في نهاية رحلتي، سأجرؤ أن أقول أنني ترددت كثيرا في المجيء. أنا حتّى لم أجرؤ على توضيب حقيبة السفر سوى قبل ساعات من الرحلة. شعور غريب كان يدفن حماسي.

ماذا سأضع في الحقيبة؟ 23 كيلوغراما لا تكفيني. أنا أريد أن أفرغ فيها كل خزانتي، أريد حتى ذلك الفستان التي لم ألبسه منذ سنوات. من يدري ربّما أحتاجه!

أريد أن أجمع فيها كتبي، أن أضع فيها حاسوبي، أغراضي الشخصية، ألواح الشوكولا التي أحبّ، أكواب النسكافيه، وغيرها. أريد حتى أن أحمل سيارتي معي. أريد أهلي وأصحابي، فلا الصور تكفيني ولا حتى “سكايب”. أريد باختصار أن أحمل عالمي ليقضي معي هذا الأسبوع.

أريد أن أجمع في شنطتي كتبي، أن أضع فيها حاسوبي، أغراضي الشخصية، ألواح الشوكولا التي أحبّ، أكواب النسكافيه، وغيرها. أريد حتى أن أحمل سيارتي معي

في طريقي نحو مطار بيروت كنت أتأمل كل تفصيل في الطرقات والأبينة وكأنني أراها للمرة الأولى. ربّما كنت أحاول أن أجمع في ذاكرتي ما لم أستطع حمله في حقيبة.

صديقة شاركتني الرحلة. لقد حاولنا جهدنا أن نحجز مقاعد الى جانب بعض. هي كانت تمسك يدي لتتخطى خوفها من ركوب الطائرة والارتفاع. وأنا كنت أحسب الطائرة لعبة في الملاهي، أحاول الاستمتاع رغم أنّ رأسي لم يتوقف عن التفكير: هل يعقل أن تضيع حقيبتي؟ أنا لا أملك سواها! هل سيلاقوننا في المطار، أم أننا سنتوه في هذا العالم الغريب؟ كيف سنستخدم المترو والمواصلات العامة؟ وأنا لم أتنقل من قبل سوى بالسرفيس وباص “طرابلس- بيروت” وسيارتي الخاصة؟ كيف سأتحدث مع الناس وأنا لا أتقن الألمانية ولست متمكنة من الانجليزية؟ هل سأستطيع تقبل عادات الشباب والشبان الذين سيشاركونني السكن والحياة على مدى أسبوع؟.

ربّما لم أفكر بنوعية الطعام الذي سأتناوله في ألمانيا. ولكنني صدمت بعدم قدرتي على تقبل هذا الطعام الغريب عني. المكونات عينها موجودة في لبنان، ولكّن النكهة تختلف. لست أدري اذا كان السرّ في لمسة سحرية تضيفها “ماما” على أطباقنا أو السرّ في وجودي “داخل عالمي”! نحن في برلين، ولكننا نحاول في كل يوم أن نبحث عن مطعم عربي، وعن أكل يشبهنا!

كل تفصيل عشته كان جديدا، وغريبا عني. لم يخطر ببالي ولا للحظة مثلا أنّ الحمامات قد تكون مفتوحة على بعضها! المساحات الخاصة منعدمة الوجود. والحياة الخاصة كذلك.

أنا لم أتنقل من قبل سوى بالسرفيس وباص “طرابلس- بيروت” وسيارتي الخاصة؟

لم يخطر ببالي أن أتسلق سور المطار ليلا لأشاهد مشهد الخسوف واقلاع الطائرات وأشرب البيرة مع الأصدقاء، ولا أن أركب دراجة هوائية لـ6 ساعات، أجول فيها ببرلين، أدخل أسواقا شعبية وأماكن سياحية، وأغني بصوت عال وأضحك فتسمع برلين ضحكتي، أنا التي في لبنان أرى صوتي قبيحا، وحياة الكشاف واللهو سبق وبدّلتها قبل سنوات بسيارة ومكتب، وضحكتي العريضة حولتها ابتسامة!

أنا في برلين، أستمتع وألهو. أنا أسافر خلف أهدافي، أسعى لتطوير نفسي. إنّه قراري في قضاء تجربة جديدة لن تستمر سوى لأسبوع واحد. ولكن مهلا! تخيلوا لو أنني لم أكن حرّة في خياري. تخيلوا لو أنّ حربا أرغمتني أن أترك بيتي وأهلي وعالمي، وأن أجمع بعضا من ملابسي، وأهرب وحيدة مع حقيبة صغيرة، الى عالم لا يشبهني، بل ربما يخاف مني، ومن أفكار زرعت في عقله عن أجدادي أو ديني أو عاداتي. تخيلوا لو أنني حملت حقيبة بالكاد فيها صورا وكنزة وبنطالا وتركت كل ما بنيت على مدى سنوات طوال، لأركب الأمواج التي قد تبتلعني في أي لحظة وليس من يد أمسكها في خوفي سوى يد الحقيبة.

لم يخطر ببالي أن أركب دراجة هوائية لـ6 ساعات، أجول فيها ببرلين، أدخل أسواقا شعبية وأماكن سياحية، وأغني بصوت عال وأضحك فتسمع برلين ضحكتي

تخيلوا لو أني كنت مضطرة للمجازفة بحياتي بحثا عن بقعة أرض ربما تكون آمنة، ولكنها ستدفن كل طموحاتي، وتتحكم بمستقبلي، سترغمني أن آكل من تلك الأطباق والبهارات التي أكره رائحتها! عن بلد سيجبرني أن ألفظ أحرفا جديدة وأن أنسى لغتي.

تخيلوا لو أنني وصلت وحيدة الى برلين، وكنت مضطرة لمواجهة هذا العالم الغريب: الناس ونظرتهم لي، كلابهم التي تتنقل معهم في المترو وأنا أخشاها، محطات القطار التي أجهلها، عاداتهم وأساليبهم في العيش…

تخيلوا كيف سأكون مرغمة أن أصبح شخصا جديدا لا يشبهني، تاريخ ميلاده لحظة وصوله الى برلين، وماضيه مدفون في حقيبة!

(Visited 309 times, 1 visits today)