التركة

يد محمود ووالدته وجدته

أعرف أنه يجب أن يكون للمنطق حيز أكبر، ولكنني أدركت أن لا مكان لا لمنطق ولا لحيادية في هذه القصة، فهي قصتي.

إن أكثر ما كان يحيرني، هي تلك المشاعر التي كان بإمكان أي أحد أن يقرأها على وجهها عندما تخبر قصتها، التي بدأت في حقول القمح في فلسطين ولا تنتهي بعد سبعين عاما في المانيا، ”كنت بعرف إني راجعة،“ قالت حينها أقفلت باب الغرفة و مضت، لم أستطع يوما أن أفهم تلك الخيبة التي كانت تعتريها في كل مرة تصل فيها إلى هذا الجزء من الحكاية، إلى أن اضطررت أنا الآخر في زمان ومكان مختلفين أن أقفل باب الغرفة وأمضي مثلها تماما، لربما اختلف الزمان والمكان، لكن المؤكد أنني قد أصبحت الشخصية الرئيسية في القصة ذاتها، لقد ورثت الدور عنها، هي جدتي وأنا الوريث الثاني بعد أمي.

 “لم يختبروا اللجوء ولكنهم عاشوه في ملامح وجهها”

أقفلت باب غرفتها في فلسطين في قرية لوبية الواقعة على الطريق الموصل بين سهل حطين وبحيرة طبريا. وخرجت تحت ترهيب الاحتلال إلى جنوب العاصمة السورية دمشق، إلى ما يسمى اليوم ”مخيم اليرموك“. هناك حيث بدأت حكاية التوريث. ذاك المفتاح الذي أحضرته معها من المحطة الأولى، لتقدمه لثمانية أنجبتهم/ن، وتهديهم معه ألف قصة لجوء وغربة. لم يختبروا اللجوء ولكنهم عاشوه في ملامح وجهها، وأورثوه لجيل ثالث، انا منه.

هناك تركت جدتي وحيدة، و مضيت مع مفاتيحي، ففي فلسفة المفاتيح خاصتنا، يأخذ الراحل مفاتيح الحكاية، ليتم قصها – واحد، اثنان، والثالث جاء دوره في ألمانيا. كما بدأت هي وحيدة في أول محطة في رحلة لجوئنا، أنا اليوم وحيد في المحطة التي آمل أن تكون الأخيرة. فأنا لا أعرف إن كان سيتوجب عليّ أن أوضب ملابسي وما تبقى من صوري في حقيبتي المهترئة مرة أخرى وأرحل. و لا أعرف إن كان عليّ أن أبدأ كل الحكاية من جديد، ولا إن كان عليّ أن أورث أحفادي ما ورثت، أو إن كان سيضاف إلى مجموعتي مفتاح.

 فصار المفتاح مفتاحين

أما عن المفتاح الثاني، فحملناه معنا سوية، تلك الجدة اللاجئة للمرة الثانية، وأنا الوارث لاللجوء الأول، واللاجئ واقعا في المرة الثانية. هجرنا قسرا في خضم الحرب في سوريا. هجرنا من بيتنا، من حلمنا، من المحطة التي كنا ننتظر فيها عودتنا، لنفتح بابنا الاول. فصار المفتاح مفتاحين. حملناهما وتوجهنا إلى إحدى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في جنوب لبنان، حيث سجلنا على خارطة اللجوء، لجوءنا الثاني و الذي دام أربع سنوات.

(Visited 139 times, 1 visits today)